عبدالله العقيبي يكتب: صوت الصارخ من قلب الطوفان

أمل دنقل
أمل دنقل

بعد مضى كل هذه السنوات على رحيل أمل دنقل، لا يزال شعره ذلك السهم الأبدى الذى ينبه الضمير الصحيح، الذى يتلوث بيوميات الهزائم العربية، مع كل هزيمة جديدة نسمع وصايا أمل بصوته الحاد،وهى تمر عبر تيارات الهواء بجانب الأسماع، كأنها نداءات نوح لابنه الذى يلوذ كل مرة بالوهم، متجاوزًا الحقيقة الناصعة أمام عينيه، اجتاح الطوفان آلاف المرات الضمير الجمعى العربي، وكل مرة يأتى صوت نوح (أمل) صارخًا بأعلى ما أوتى من موت «لا تصالح»، فيأتى الصوت العربى المنكسر عبر نحيب درويش «انتهى الأمر ... كم مرةً سينتهى أمرنا يا أبي؟»، أمل الذى قال «لا» للسفينة، هو ذاته نوح الذى قال «ولا تتوخ الهرب».

كنت منكسرًا فى بدايات المرحلة الجامعية، طريدًا وهاربًا من زحام المشاعر واصطخابها داخلي، وبسبب عدم اتساع بيت العائلة لصوتى الغاضب، تركت مدينة أهلى متذرعًا بالدراسة، هائمًا فى مدينة أخرى، أبحث فى مكاتب العقارات عن غرفة تكفى للوحدة والصراخ، دخلت مكتب العقار الصغير فى ذلك الحى الشعبي، أسأل عن مدى إمكانية وجود تلك الغرفة، فصافحتنى صورة أمل دنقل على غلاف كتاب عبلة الرويني(الجنوبي)، كان الكتاب أعلى كتاب ضمن مجموعة كتب موضوعة فوق بعضها البعض، على مكتب ذلك الرجل، الذى علمت فيما بعد أنه شاعر أيضًا، والذى صار صديقى الأقرب: 


من هذا؟
أمل دنقل الجنوبي.
وأخذت الكتاب بقوة، ثم الأعمال الكاملة، ثم تغيرت حياتى التى دخلها شعر أمل دنقل، صار ينادى فى أرجاء تلك الغرفة ذات الجدران الخشنة. لا أعتقد أن أحدًا يمكنه أن يتعرف على أمل دنقل بالطريقة السهلة، دون ذلك الضجيج الذى يفزع الروح تحت الجلد.


فى الفيلم التسجيلى الذى عرضته قناة الجزيرة عن أمل دنقل، قال عبدالرحمن الأبنودى صديقه الأقرب «إن تجربته فى مواجهة الموت لا تتكرر، مهما قيل لك أن أحدًا واجه الموت، تجربة أمل فى مواجهته لن تتكرر» أنا أصدق الخال عبدالرحمن، وأقول إن موت أمل ليس موتًا عاديًا، فموته المبكر بسبب المرض هو الصورة الواقعية التى نراها فى موت كل مريض، لكن هناك موت آخر لأمل، موت يطالنا جميعًا، موت استعادي، لا طائل من تجاهل الشعور به، موت شعرى على طريقة موت لوركا أو إعدامه بعبارة أدق، لا يمكن تخيل موت أمل بمعزل عن صوته المقتول فى قصيدة (كلمات سبارتكوس الأخيرة) «فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد .. وخلف كل ثائر يموت أحزان بلا جدوى»، صوت «من قال لا فى وجه من قالوا نعم»، صوت الرصاصة التى ينتظرها كل من لا يتجاهل شعر وتجربة أمل، تجربة الضمير الحى الذى يرى صخرة سيزيف فوق عنق كل المقهورين، الذين أصبحوا يُولدَون حاملين فى جيناتهم الوراثية مرارة الدموع وعطش البحر. فكيف لا يواجه الموت بهذه الشراسة من رأى موتنا الجماعى على هذا المستوى من الوضوح؟!


قتل الواقع العربى المقيت الكثير من أحلامنا، فكيف لا يقتل الشاعر العظيم؟! الفرق الوحيد أن أمل مثل لوركا تمامًا قُتل وهو يلقى كلماته فى وجه العالم، فى وجه الظلام، فتحولت كلماته من كلمات شعرية إلى وصايا ينقلها الآباء إلى أبنائهم، فإذا لم نعرف ماذا نقول لأبنائنا، يمكن لصوت القتيل (أمل) أن يصل إلى أسماعهم، يمكن لصرخاته أن تذكرهم بالفارس القديم، والخيول، والطيور، وبالمجد الإنسانى الخالد، الذى ينادى بالحرية الخالصة، تجربتى الشخصية مع صوت أمل دنقل فى تلك الغرفة الصغيرة خير دليل، مات أبى وهو لا يعرف أمل دنقل، لكن صوته عرف الطريق إلى قلبي، الذى لم يعد كما كان بعد أن سمع تلك النداءات من قلب الطوفان.